أكمل اليوم ما بدأته من تناول طرف من تجربة رائد النهضة الماليزية الدكتور مهاتير محمد، من خلال ترؤسه لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة، والذي انعقد في العاصمة الماليزية كوالالمبور في الفترة من 10-13 نوفمبر 2014 بعنوان «الدولة المدنية رؤية إسلامية»، وبحضور لفيف من المفكرين والمثقفين العرب. ومنهم الكاتب ياسر العرباوي الذي أستقي منه اليوم.
كما هو معهود منه، حضر مهاتير جل جلسات المنتدى وتكلم بصراحة، وجمعت إجاباته بين خلاصة التجربة الماليزية وإدراك مكامن الخلل في التجربة العربية، وكأنه يصف الدواء لأزمات المجتمع العربي. وفيما يلي جملة من تلك الأفكار التي طرحها، والتي ـ من وجهة نظري ـ تستحق النظر والدراسة، مع رجائي بعدم استعجال الرد سواء بالقبول أو الرفض، لأننا سنقع في الملاحظات ذاتها التي تكلم عنها.
1- تقديم التنازلات طريق الاستقرار:
ذكر مهاتير أن ماليزيا بلد متعدد الأعراق والأديان والثقافات، ووقعت فيها صراعات أهلية ضربت عميقاً أمن واستقرار المجتمع؛ وخلال تلك الاضطرابات لم تتمكن الدولة من وضع لبنة فوق أخرى، لأن التنمية تحتاج إلى الأمن والسلام، فكان «لزاماً علينا كقيادة سياسية الدخول في حوار مفتوح مع كل المكونات الوطنية من دون استثناء لأحد، وكان الشرط المسبق هو الاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة من قبل الجميع، لكي نتمكن من توطين الاستقرار والتنمية في البلد، وقد نجحنا في ذلك من خلال تبني خطة 2020 لبناء ماليزيا الجديدة، وتحركنا قدماً في تحويل ماليزيا إلى بلد صناعي كبير قادر على المنافسة في السوق العالمي بفضل التعايش والتسامح».
2- تحديد الهدف والاتجاه:
ركز مهاتير على ضرورة توجيه الجهود والطاقات إلى الملفات الحقيقية في المجتمعات وهى الفقر والبطالة والجوع والجهل، لأن الانشغال بالأيديولوجيا ومحاولة الهيمنة على المجتمع وفرض أجندات ثقافية وفكرية عليه لن يقود المجتمعات إلا إلى مزيد من الاحتقان والتنازع، فلا يمكن أن نطلب من الجوعى والفقراء أن يطوروا الوعى أو ينشروا الثقافة. وأشار إلى أننا كمسلمين صرفنا أوقاتاً وجهوداً كبيرة في مصارعة طواحين الهواء عبر الصراعات المذهبية واتهامات التكفير والتجهيل.
وقال مهاتير: «إن الله لا يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم»، فنحن المسلمين قسمنا أنفسنا إلى جماعات وطوائف وفرق يقتل بعضها بعضاً بدم بارد، وأهدرنا طاقاتنا في الثأر والانتقام، والتي يحرص المتعصبون على نشرها في أرجاء الأمة عبر كل الوسائل وبحماس زائد، ثم بعد كل ذلك نطلب من الله أن يرحمنا، ويجعل السلام والاستقرار يستوطن أرضنا! فذلك ضرب من الخيال في ظل سنن الله. علينا أن نتجاوز آلام الماضي وننحاز للمستقبل.
3- الفتاوى لن تحل مشاكل المسلمين:
شرح مهاتير هذه النقطة باستفاضة قائلاً إن قيادة المجتمعات المسلمة والحركة بها للأمام ينبغي أن لا تخضع لهيمنة فتاوى الفقهاء والوعاظ؛ فالمجتمعات المسلمة عندما رضخت لبعض الفتاوى والتصورات الفقهية التي لا تتناسب مع حركة تقدم التاريخ أصيبت بالتخلف والجهل، فالعديد من الفقهاء حرموا على الناس استخدام التلفزيون والمذياع وركوب الدراجات وشرب القهوة، وجرموا تجارب عباس بن فرناس للطيران.
هذه النقطة قد تثير الكثير من الزوابع، وتحتاج الكثير من الشجاعة في طرحها وقبول النقاش حولها، وأعتقد أن مهاتير هنا يتكلم عن الفتاوى الفردية الصادرة من غير ذوي الاختصاص، أو التي تفتي في أمور حياتية من دون استشارة أهل الاختصاص الفني والعلمي. والحل يكمن في تفعيل أكثر لدور المجامع الفقهية التي تجمع بين علماء الشريعة وعلماء العلوم الأخرى، لأننا نخسر وقتاً ثميناً في نقاشات وصراعات نشأت بسبب بعض تلك الفتاوى القاصرة.
وفي ذات الموضوع عرج مهاتير على مثال جدلي، وأرجو أن ينال حظاً من التفهم والتأمل، قال مهاتير إن كلام العديد من الفقهاء بأن قراءة القرآن كافية لتحقيق النهوض والتقدم! أثر سلباً في المجتمع؛ فقد انخفضت لدينا نسب العلماء في الفيزياء والكيمياء والهندسة والطب، بل بلغ الأمر في بعض الكتابات الدينية إلى تحريم الانشغال بهذه العلوم. لذا أكد مهاتير على أن حركة المجتمع لا بد من أن تكون جريئة وقوية، وعلى الجميع أن يُدرك أن فتاوى وآراء النخب الدينية ليست ديناً، فنحن نُقدس النص القرآني، ولكن من الخطأ تقديس أقوال المفسرين واعتبارها هي الأخرى ديناً واجب الاتباع.
وأعتقد أن ما طرحه الرجل مع جرأته يحمل الكثير من العقلانية؛ فمن منا ينكر أننا تربينا على كلام وعاظ أفاضل كانوا يُعلون من شأن العلم الشرعي، ويقللون مما سواه، ويجعلون المفاضلة في ما بيننا بعدد ختمات القرآن لا بمدى وعينا وفهمنا لما نقرأ!
هذه مجمل الأفكار الجريئة والصادمة في بعض جوانبها لبعض المسلّمات المستقرة في أفهامنا كعرب ومسلمين، وأترك تقييمها لقرائي الكرام.
وإلى الملتقى، كونوا بخير.