آن الأوان لكل الذين استخدموا، منّا، الجنوب وقضيته ليعتلوا على ظهرها أن يترجلوا من على ظهرها، الذي انهكوه بالسباق على الجنوب، وأن الأوان قد آن لأن نحمِلْها على ظهورنا وفي قلوبنا وحدقات أعيننا للسباق بها من أجل الجنوب، ومن لم يدرك هذا حتى الآن فإن القضية الجنوبية سترميه من على ظهرها وستسير أسرع وأكثر فعالية بابناء شعبها الذين يحملونها ويعرفون قدرها وقيمتها والذين قدَّموا التضحيات من أجل الجنوب واسمه وهويته وقضيته.
كما أن علينا جميعاً أن نتوقف عن العبث في صفوف مناضلي شعبنا وشبابه الذين قدَّموا، ويقدِّمون، التضحيات في ميادين العزة والكرامة.. فمن العار أن نُحوِّلهم إلى مسميات مُهينة لنضالهم فتصبح مُسمّياتهم “أتباع هذا.. أو ذاك”.. فجميعنا أتباع الجنوب وشعب الجنوب وقضيته وأهدافه الوطنية.
إن القضية الجنوبية ليست قضية مطلبية ولا قضية أشخاص أو قيادات أو مكونات بل لم تعد قضية سياسية ولا تحسمها التسويات السياسية التقليدية أو الأساليب السياسية القديمة القائمة على تنازلات متبادلة تمس الهدف (التحرير والاستقلال وبناء دولة جنوبية) بل هي قضية وطنية تتعلق بإنهاء الاحتلال وتحقيق الهدف والحفاظ على الهوية.. وبالتالي فمسؤليتها وقيادة مسيرتها السلمية والحفاظ على خط سير نضالها، سياسياً وميدانياً، لا يجب مطلقاً أن يكون وفق أسس ومعايير القضايا السياسية في إطار البلد الواحد أو حتى وفق الأسس والمعايير السياسية لحل القضايا والمشاكل بين دولتين قائمتين.
ومن هنا، فإنه لا بد من شراكة سياسية مجتمعية جنوبية تضم شرائح وفئات المجتمع الفاعلة في كل المجالات ووفق الأسس والمعايير المعاصرة لعلوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والإعلام والثقافة والفن والابداع، في كل مجال، وبالتالي فإن منظمات المجتمع المدني والشخصيات الفاعلة من العلماء والقيادات السياسية والعسكرية والأمنية ورجال الأعمال والشخصيات الإدارية المدركة والمرأة والشباب والاكاديميين والكتّاب والأدباء والمحامين والعمال والفنيين والمهنيين والفلاحين والفنانين والأطباء والمهندسين والمدرسين والطلبة وأهل المدن وأهل الريف، جميعاً هم شركاء في القرار والمسيرة والمصير، فهي قضية وطن وهوية.. وبذلك نقيم صماماً يؤمّن مسيرة القضية من أي عبث ويحول دون ارتكاب أخطاء سياسية مبنية على مفاهيم وأساليب سياسية بالية تنطلق من مفهوم خاطئ بأن القضية الوطنية يمكن حلها بمعايير التسويات السياسية المعتادة في القضايا السياسية في إطار الدولة الواحدة أو في إطار النزاع بين دولتين على مصالح.
إن الفرق كبير وأساسي بين معالجة القضايا السياسية في إطار الدولة الواحدة، أو حتى في علاج قضايا المصالح بين دولتين قائمتين سواء أكانت مصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وبين علاج القضايا الوطنية المتعلقة بهوية وطن وكيانه وتحريره واستقلاله.. فعلاج القضايا السياسية يقوم على التسويات السياسية والتنازلات المتبادلة التي تحددها موازين القوة بكل أشكالها، عسكرية أو مالية أو إعلامية…إلخ، ولا يحددها الحق.
أما القضايا الوطنية المتعلقة بمصير وطن وحريته واستقلاله وبناء دولته، وبهويته الوطنية، فهي لا تخضع “للتسويات السياسية” والتنازلات المتبادلة.. بل تخضع للحق وللمعايير الدولية والقانون الدولي المعاصر.. ولا تحدد مصيرها موازين قوى طرفي الخصومة.
وفي عصرنا الحديث.. حققت بلدان استقلالها إما بكفاح مسلح بقوى بسيطة أمام قوى كبيرة.. ولكن بحجة من الحق قوية وبصمود شعبي لا يستكين.. كما حققت بلدان صغيرة استقلالها بنضال سلمي وتصميم على الحق أمام قوى تملك كامل القوة العسكرية والسكانية والمالية، ومثال على ذلك “تيمور الشرقية” والتي لم يصل سكانها إلى نصف مليون أمام إندونيسيا التي يزيد سكانها على مائتي مليون.. كما حققت الهند استقلالها بكفاح سلمي، ورغم عدم امتلاكها لأي قوة عسكرية أو مادية، آنذاك، أمام بريطانيا العظمى التي كانت أقوى دول العالم وتحكم بلداناً كثيرة. وجمهوريات الاتحاد السوفياتي استقلت رغم فارق القوة، وسراييفو وكوسوفو رغم استخدام كل آلات القمع والمذابح…إلخ.
لذلك فإن أي حوار أو تفاوض يخص القضية الجنوبية باعتبارها قضية سياسية لا يعني إلا “تسوية” تقوم على تنازلات متبادلة، مما ينهي القضية الجنوبية كقضية وطنية.
وشعبنا في الجنوب يعتبر قضيته قضية وطنية تتعلق بالهوية والتحرير والاستقلال وبناء دولته، وبالتالي فإن أي حوار/تفاوض حولها غير قابل “للتسوية” والتنازلات المتبادلة في تلك المرتكزات.. ويمكن أن يقبل بالتسويات في بناء العلاقات المتبادلة والمصالح المشتركة بقصد فتح آفاق للتعاون بين البلدين والشعبين بما يحقق المصالح المشتركة المتوازنة.
إن الخطر، كل الخطر، على القضية الجنوبية هو في أي حوارات أو مفاوضات أو تفاهمات مبنية على التوصيف الخاطئ للقضية الجنوبية في اعتبارها قضية سياسية – بامتياز أو بلا امتياز!! – قابلة للتسويات السياسية.. وهو توصيف تأصل نتيجة لثقافة مستحدثة في العقود الستة الأخيرة باعتبار الجنوب “جزء من كل” و”فرع من أصل”.. بل ذهب الحدّ بأن يُرسَّخ في الأذهان بأن ما أُعلن من وحدة عام1990م هو “إعادة للوحدة” التي في الحقيقة لم يكن لها وجود في التاريخ.. وبالتالي فإن استخدام مصطلح “إعادة الوحدة” كان استخداماً لإعادة “عدم”.. بل إن مسمى “اليمن” أساساً هو مسمى جهوي.. ولم يُستخدم هذا المسمى لكيان سياسي إلا في عهد الإمام يحيى حميد الدين، رحمه الله، عام 1918م.. وبناءً على كل تلك الدعاوى تم إلغاء هوية الجنوب واسمه وتكريس هذه الثقافة المستحدثة التي لم يفق منها الجنوب إلا بعد الاحتلال في عام1994م.
ومن هذه المنطلقات، فإن الحوارات أو المفاوضات أو التفاهمات باعتبار القضية الجنوبية قضية سياسية هو تجذير لتكريس هذه الثقافة المستحدثة مما سينتج عنه إنهاء الجنوب، هوية وكياناً.. ولكننا نثق أنه أمر سيفشل حتماً.. فشعبنا لن يقبل بهذا.. وحتماً دولة الجنوب قادمة، بإذن الله.
هامش:
1) يستغل البعض بعض نتوءات الخلافات في صفوف بعض القيادات الجنوبية لإثارة الشكوك، إقليمياً ودولياً، في أن تؤدي تلك الخلافات الفوقية إلى صراعات جنوبية – جنوبية فلا يتحقق أمن واستقرار في دولة الجنوب القادمة.. والقراءة الموضوعية تؤكد أن شعبنا لن يتقاتل –بإذن الله– من أجل أي قيادات مختلفة، ومن أراد منها أن يقاتل الآخر فليأتي بابنائه يقاتل بهم لا بابناء شعبنا.
كما أن عدم الأمن والاستقرار لن ينتج إلا بمحاولة إجبار شعب الجنوب على ترك حقه في حريته واستقلاله وإقامة دولته وفرض وحدة عليه هو رافض لها وسيقاوم ذلك سلمياً وسيحقق حريته واستقلاله ويبني دولته الآمنة المستقرة.. وفي نفس الوقت سيبقى الظلم والتمييز في إطار اليمن هو عامل عدم أمنه واستقراره.
2) بهدف التبرير للتسويات السياسية فإنه يُشاع من البعض أن العالم والإقليم ضد إرادة شعب الجنوب في إقامة دولته المستقلة.. والحسابات السياسية المدركة للمصالح الإقليمية والدولية في منطقتنا تدحض ما يُشاع.